فوائد من تفاسير الشيخ ابن عثيمين بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فاستكمالاً لما تم الشروع فيه من استخراج فوائد من كتب
العلامة محمد بن عثيمين عليه رحمات رب العالمين وكانت البداية بكتاب رياض
الصالحين ، ثم كتاب الأربعين النووية ثم كان الكتاب الثالث تعليق الشيخ على
صحيح مسلم ، وهذه الزاوية بإذن الله ستعنى باستخراج فوائد من تفاسير الشيخ
ابن عثيمين عليه رحمة الله ، وسأفتتحها باستخراج الفوائد من تفسير الشيخ لسورة الفاتحة والبقرة وهو تفسير مطبوع في ثلاث مجلدات ، والطبعة التي يتم منها النقل هي الطبعة الأولى 1423هـ ، دار ابن الجوزي .
فوائد من المجلد الأول : 1 ـ سورة الفاتحة سميت بذلك لأنه افتتح بها القرآن الكريم ، وقد قيل : إنها أول سورة نزلت كاملة . ص3 .
2 ـ سورة الفاتحة لها مميزات تتميز بها عن غيرها ،
منها أنها ركن في الصلوات التي هي أفضل أركان الإسلام بعد الشهادتين فلا
صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ، ومنها أنها رقية إذا قرئ بها على المريض
شُفي بإذن الله ، لأن النبي
قال للذي قرأ على اللديغ ، فبرئ :
( وما يدريك أنها رقية ) . وقد ابتدع بعض الناس اليوم في هذه السورة بدعة ، فصاروا يختمون بها الدعاء ،
ويبتدئون بها الخطب ويقرؤونها عند بعض المناسبات ، وهذا غلط : تجده مثلاً
إذا دعا ، ثم دعا قال لمن حوله : ( الفاتحة ) يعني اقرؤوا الفاتحة ، وبعض
الناس يبتدئ بها في خطبه أو في أحواله ، وهذا أيضاً غلط لأن العبادات
مبناها على التوقيف ، والاتباع . ص 3-4 .
3 ـ هل البسملة آية من الفاتحة أو لا ؟
في هذا خلاف بين العلماء فمنهم من يقول : إنها آية من الفاتحة ، ويقرأ بها
جهراً في الصلاة الجهرية ، ويرى أنها لا تصح إلا بقراءة البسملة لأنها من
الفاتحة ومنهم من يقول : إنها ليست من الفاتحة ولكنها آية مستقلة من كتاب
الله وهذا القول هو الحق ودليل هذا : النص ، وسياق السورة .
أما النص :
فقد جاء في حديث أبي هريرة
أن النبي
قال : ( قال الله تعالى :
قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : إذا قال : ( الحمد لله رب العالمين ) قال
الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال : ( الرحمن الرحيم ) قال الله تعالى :
أثنى علي عبدي ، وإذا قال : ( مالك يوم الدين ) قال الله تعالى : مجدني
عبدي ، وإذا قال ( إياك نعبد وإياك نستعين ) قال الله تعالى : هذا بيني
وبين عبدي نصفين ، وإذا قال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) قال الله تعالى :
هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) ، وهذا كالنص على أن البسملة ليست من الفاتحة ، وفي الصحيح عن أنس بن مالك
قال : ( صليت خلف النبي
وأبي بكر ، وعمر ، فكانوا لا يذكرون ( بسم الله الرحمن الرحيم ) في أول
قراءة ولا في آخرها ) والمراد لا يجهرون والتمييز بينها وبين الفاتحة في
الجهر وعدمه يدل على أنها ليست منها .
أما من جهة السياق من حيث المعنى :
فالفاتحة سبع آيات بالاتفاق ، وإذا أردت أن توزع سبع الآيات على موضوع السورة وجدت أن نصفها هو قوله تعالى :
( إياك نعبد وإياك نستعين ) وهي الآية التي قال الله فيها : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) لأن
( الحمد لله رب العالمين ) واحدة
( الرحمن الرحيم ) الثانية
( مالك يوم الدين ) الثالثة ، وكلها حق لله
( إياك نعبد وإياك نستعين ) الرابعة يعني الوسط وهي قسمان : قسم منها حق لله ، وقسم حق للعبد
( اهدنا الصراط المستقيم ) للعبد
( صراط الذين أنعمت عليهم ) للعبد
( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) للعبد .
فتكون ثلاث آيات لله
وهي الثلاث الأولى ، وثلاث آيات للعبد وهي الثلاث الأخيرة وواحدة بين
العبد وربه وهي الرابعة الوسطى . فالصواب الذي لا شك فيه أن البسملة ليست
من الفاتحة كما أن البسملة ليست من بقية السور . ص7 ـ 9 .
4 ـ قال تعالى :
( الحمد لله رب العالمين ) فهنا تقديم وصف الله بالألوهية على وصفه بالربوبية : وهذا إما لأن ( الله )
هو الاسم العَلَم الخاص به ، والذي تتبعه جميع الأسماء ، وإما لأن الذين
جاءتهم الرسل ينكرون الألوهية فقط . ص 10 .
5 ـ ربوبية الله
مبنية على الرحمة الواسعة للخلق الواصلة ، لأن الله تعالى لما قال :
( رب العالمين ) كأن سائلاً يسأل : ( ما نوع هذه الربوبية ؟ هل هي ربوبية أخذ ، وانتقام ، أو ربوبية رحمة ، وإنعام ؟ قال تعالى :
( الرحمن الرحيم ) . ص11 .
6 ـ في قوله تعالى :
( مالك ) قراءة سبعية :
( مَلِك ) و( المَلِك ) أخص من ( المالك ) .
ففي الجمع بين القراءتين فائدة عظيمة ، وهي أن ملكه
ملك حقيقي ، لأن من الخلق من يكون ملكاً ، ولكن ليس بمالك : يسمى ملكاً
اسماً وليس له من التدبير شيء ، ومن الناس من يكون مالكاً ، ولا يكون ملكاً
: كعامة الناس ، ولكن الرب
مالك ملك . ص 12 .
7 ـ قال تعالى :
( مالك يوم الدين ) إن قال قائل : أليس مالك يوم الدين ، والدنيا ؟
فالجواب : بلى ، لكن ظهور ملكوته ، وملكه ، وسلطانه ، إنما يكون في ذلك
اليوم لأن الله تعالى ينادي : ( لمن الملك اليوم ) فلا يجيب أحد فيقول
تعالى : ( لله الواحد القهار ) في الدنيا يظهر ملوك يعتقد شعوبهم أنه لا
مالك إلا هم فالشيوعيون مثلاً لا يرون أن هناك رباً للسموات ، والأرض يرون
أن الحياة : أرحام تدفع ، وأرض تبلع ، وأن ربهم هو رئيسهم . ص 12ـ 13 .
8
ـ ليعلم أن القراءة التي ليست في المصحف الذي بين أيدي الناس لا تنبغي القراءة بها عند العامة لوجوه ثلاثة :
الوجه الأول : أن العامة إذا رأوا هذا القرآن
العظيم الذي قد ملأ قلوبهم تعظيمه ، واحترامه إذا رأوه مرة كذا ، ومرة كذا
تنزل منزلته عندهم لأنهم عوام لا يُفرقون .
الوجه الثاني : أن القارئ يتهم بأنه لا يعرف لأنه قرأ عند العامة بما لايعرفونه فيبقى هذا القارئ حديث العوام في مجالسهم .
الوجه الثالث : أنه إذا أحسن العامي الظن بهذا القارئ وأن عنده
علماً بما قرأ فذهب يقلده فربما يخطئ ثم يقرأ القرآن لا على قراءة المصحف ،
ولا على قراءة التالي الذي قرأها وهذه مفسدة .
ولهذا قال علي :
( حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يُكذب الله ورسوله ) . وقال ابن مسعود ::
( إنك لا تحدث قوما ً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ) .
والحمد لله : ما دام العلماء متفقين على أنه لا يجب أن يقرأ الإنسان بكل
قراءة ، وأنه لو اقتصر على واحدة من القراءات فلا بأس ، فدع الفتنة
وأسبابها . ص 18 ـ 19 .
9 ـ قال تعالى :
( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) .
هذا من بلاغة القرآن حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدال
على أن الغضب عليهم حاصل من الله تعالى ، ومن أوليائه . ص 20 .
10 ـ قال تعالى :
( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) .
فقدم سبحانه الأشد ، فالأشد لأنه تعالى قدم المغضوب عليهم على الضالين
لأنهم أشد مخالفة للحق من الضالين فإن المخالف عن علم يصعب رجوعه بخلاف
المخالف عن جهل . ص 20 .
11 ـ سورة الفاتحة سورة عظيمة ، ولا يمكن لي ولا
لغيري أن يحيط بمعانيها العظيمة ، لكن هذا قطرة من بحر ، ومن أراد التوسع
في ذلك فعليه بكتاب ( مدارج السالكين ) لابن القيم . ص20 .
12
ـ قال في افتتاح سورة البقرة :
( آلم ) .
هذه الحروف الهجائية اختلف العلماء فيها ، وفي الحكمة منها على أقوال كثيرة يمكن حصرها في أربعة أقوال :
القول الأول : أن لها معنى ، واختلف أصحاب هذا القول في تعيينه : هل هو اسم لله أو اسم للسورة أو أنه إشارة إلى مدة هذه الأمة أو نحو ذلك .
القول الثاني : هي حروف هجائية ليس لها معنى إطلاقاً .
القول الثالث : لها معنى الله أعلم به ، فنجزم بأن لها معنى ولكن الله أعلم به لأنهم يقولون : إن القرآن لا يمكن أن ينزل إلا بمعنى .
القول الرابع : التوقف ، وألا نزيد على تلاوتها ونقول : الله أعلم : ألها معنى ، أم لا وإذا كان لها معنى فلا ندري ما هو .
وأصح الأقوال فيها القول الثاني وهو أنها حروف هجائية ليس لها معنى على
الإطلاق وهذا مروي عن مجاهد ، وحجة هذا القول : أن القرآن نزل بلغة العرب
وهذه الحروف ليس لها معنى في اللغة العربية مثل ما تقول : ألف ، باء ، تاء ،
ثاء ، جيم ، حاء . . . ، فهي كذلك حروف هجائية .
أما كونه تعالى اختار هذا الحرف دون غيره ، ورتبها هذا الترتيب فهذا ما لا علم لنا به .
هذا بالنسبة لذات هذه الحروف ، أما بالنسبة للحكمة منها فعلى قول من يعين
لها معنى فإن الحكمة منها : الدلالة على ذلك المعنى مثل غيرها مما في
القرآن .
وأما على قول من يقول : ( ليس لها معنى ) ، أو : ( لها معنى الله أعلم به )
أو : ( يجب علينا التوقف ) فإن الحكمة عند هؤلاء على أرجح الأقوال وهو
الذي اختاره ابن القيم ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، واختاره تلميذه الحافظ
الذهبي ، وجمع كثير من أهل العلم هو الإشارة إلى بيان إعجاز القرآن العظيم ،
وأن هذا القرآن لم يأت بكلمات ، أو بحروف خارجة عن نطاق البشر وإنما هو من
الحروف التي لا تعدو ما يتكلم به البشر ومع ذلك فقد أعجزهم .
فهذا أبين في الإعجاز لأنه لو كان في القرآن حروف أخرى لا يتكلم الناس بها
لم يكن الإعجاز في ذلك واقعاً لكنه بنفس الحروف التي يتكلم بها الناس ومع
هذا فقد أعجزهم ، فالحكمة منها ظهور إعجاز القرآن الكريم في أبلغ ما يكون
من العبارة ، قالوا :
ويدل على ذلك أنه ما من سورة افتتحت بهذه الحروف إلا وللقرآن فيها ذكر إلا
بعض السور القليلة لم يذكر فيها القرآن لكن ذُكر ما كان من خصائص القرآن :
فمثلاً قوله تعالى :
( كهيعص ) ليس بعدها ذكر للقرآن ولكن جاء في السورة خاصية من خصائص القرآن وهي ذكر قصص من كان قبلنا :
( ذكر رحمت ربك عبده زكريا ) .كذلك في سورة الروم قال تعالى في أولها :
( الم * غلبت الروم ) فهذا الموضع أيضاً ليس فيه ذكر للقرآن ولكن في السورة ذكر شيء من خصائص القرآن وهو الإخبار عن المستقبل :
( غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين ) .وكذلك أيضاً قوله تعالى :
( الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ليس فيها ذكر القرآن ولكن فيها شيء من القصص الذي هو أحد خصائص القرآن : ( ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا ) .
فهذا القول الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية واختاره جمع من أهل العلم هو
الراجح : أن الحكمة من هذا ظهور إعجاز القرآن في أبلغ صوره ، حيث أن
القرآن لم يأت بجديد من الحروف ومع ذلك فإن أهل اللغة العربية عجزوا عن
معارضته وهم البلغاء الفصحاء . ص22 ـ 24 .
13 ـ قال الله :
( ذلك الكتاب لا ريب فيه )
أشار إليه سبحانه بأداة البعيد ( ذلك ) لعلو منزلته لأنه أشرف كتاب ، وأعظم
كتاب ، وإذا كان القرآن عالي المكانة والمنزلة ، فلا بد أن يعود ذلك على
المتمسك به بالعلو والرفعة ، لأن الله يقول :
( ليظهره على الدين كله ) وكذلك ما وُصف به القرآن من الكرم ، والمدح ، والعظمة فهو وصف أيضاً لمن تمسك به . ص 25 ، ص28 .
14 ـ من القواعد الهامة في فهم وتفسير القرآن :
أنه يجب علينا إجراء القرآن على ظاهره ، وأن لا نصرفه عن الظاهر إلا بدليل ، مثل قوله تعالى :
( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) فهذه
الآية ظاهرها خبر لكن المراد بها الأمر لأنه قد لا تتربص المطلقة فما دمت
تريد تفسير القرآن الكريم فيجب عليك أن تجريه على ظاهره إلا ما دل الدليل
على خلافه ، وذلك لأن المفسر للقرآن شاهد على الله بأنه أراد كذا وكذا وأنت
لو فسرت كلام بشر على خلاف ظاهره للامك هذا المتكلم ، وقال : لماذا تحمل
كلامي على خلاف ظاهره ! ليس لك إلا الظاهر ، مع أنك لو فسرت كلام هذا الرجل
على خلاف ظاهره لكان أهون لوماً مما لو فسرت كلام الله ، لأن المتكلم غير
الله ربما يخفى عليه المعنى ، أو يعييه التعبير ، أو يعبر بشيء ظاهره خلاف
ما يريده ، فتفسره أنت على ما تظن أنه يريده ، أما كلام الله فهو صادر عن
علم ، وبأبلغ كلام ، وأفصحه ، ولا يمكن أن يخفى على الله ما يتضمنه كلامه
فيجب عليك أن تفسره بظاهره . ص26 ـ 27 .
15
ـ قال تعالى :
( إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) .من فوائد هذه الآية أن الإنسان إذا كان لا يشعر بالخوف عند الموعظة ، ولا
بالإقبال على الله تعالى فإن فيه شبهاً من الكفار الذين لا يتعظون بالمواعظ
، ولا يؤمنون عند الدعوة إلى الله . ص38 .
16 ـ قال الله تعالى :
( يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) .إن قيل : كيف يكون خداعهم لله وهو يعلم ما في قلوبهم ؟
فالجواب : أنهم أظهروا إسلامهم فكأنما خادعوا الله لأنهم حينئذ تُجرى عليهم
أحكام الإسلام ، فيلوذون بحكم الله ـ ـ حيث عصموا دماءهم وأموالهم بذلك .
ص45 .
17 ـ قال تعالى :
( وإذا قيل لهم ءامنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما ءامن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ) .
من فوائد الآية : أن كل من لم يؤمن فهو سفيه ، كما قال الله تعالى :
( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) . ص51 .
18 ـ قال عن المنافقين :
( وإذا لقوا الذين ءامنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) .المنافق ذليل لأنه خائن فهم
( إذا لقوا الذين ءامنوا قالوا آمنا ) خوفاً من المؤمنين ،
( وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم ) خوفاً منهم ، فهم أذلاء عند هؤلاء ، وهؤلاء ، لأن كون الإنسان يتخذ من
دينه تقية فهذا دليل على ذله ، وهذا نوع من النفاق لأنه تستر بما يُظَن أنه
خير وهو شر . ص54 ـ 55 .
19
ـ قال تعالى :
( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) .قيل : إن في الآية مجازاً من وجهين ، الأول : أن الأصابع ليست كلها تجعل في الأذن والثاني : أنه ليس كل الأصبع يدخل في الأذن .
والتحقيق : أنه ليس في الآية مجاز ، أما الأول : فلأن ( أصابع ) جمع عائد على قوله تعالى :
( يجعلون ) فيكون من باب توزيع الجمع على الجمع ـ أي يجعل كل واحد منهم أصبعه في أذنه
، وأما الثاني : فلأن المخاطب لا يمكن أن يفهم من جعل الأصبع في الأذن أن
جميع الأصبع تدخل في الأذن ، وإذا كان لا يمكن ذلك امتنع أن تحمل الحقيقة
على إدخال جميع الأصبع ، بل الحقيقة أن ذلك إدخال بعض الأصبع ، وحينئذ لا
مجاز في الآية .
على أن القول الراجح أنه لامجاز في القرآن أصلاً لأن معاني الآيات تدرك
بالسياق ، وحقيقة الكلام : ما دل عليه السياق وإن استعملت الكلمات في غير
أصلها ، وبحث ذلك مذكور في كتب البلاغة ، وأصول الفقة .
وأكبر دليل على امتناع المجاز في القرآن : أن من علامات المجاز صحة نفيه ،
وتبادر غيره لولا القرينة ، وليس في القرآن ما يصح نفيه وإذا وجدت القرينة
صار الكلام بها حقيقة في المراد به . ص65 ـ 66 .
20 ـ قال تعالى : (
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) .النداء هنا وجه لعموم الناس مع أن السورة مدنية والغالب في السور المدنية
أن النداء فيها يكون موجهاً للمؤمنين ، والله أعلم بما أراد في كتابه ، ولو
قال قائل : لعل هذه آية مكية جعلت في السورة المدنية ؟
فالجواب : أن الأصل عدم ذلك ـ أي إدخال الآيات المكية في السور المدنية ،
أو العكس ولا يجوز العدول عن هذا الأصل إلا بدليل صحيح صريح وعلى هذا فما
نراه في عناوين بعض السور أنها مدنية إلا آية كذا ، أو مكية إلا آية كذا
غير مسلم حتى يثبت ذلك بدليل صحيح صريح ، وإلا فالأصل أن السورة المدنية
جميع آياتها مدنية ، وأن السور المكية جميع آياتها مكية إلا بدليل ثابت .
ص72 .
21 ـ قال تعالى :
( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) .من طريق القرآن أنه إذا ذَكر الحكم غالباً ذكر العلة ، الحكم :
( اعبدوا ربكم ) والعلة : كونه رباً خالقاً لنا ، ولمن قبلنا . ص74 .
قال تعالى :
( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون * وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) .
قوله تعالى :
( وإن كنتم ) الخطاب لمن جعل لله أنداداً لأنه تعالى قال :
( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون * وإن كنتم في ريب ) .
وفي ذكر هذه الآية المتعلقة برسالة محمد إشارة إلى كلمتي التوحيد ، وهما
شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، لكن شهادة أن لا إله
إلا الله : توحيد القصد والثاني : توحيد المتابعة فكلاهما توحيد ، لكن
الأول توحيد القصد بأن يكون العمل خالصاً لله ، والثاني توحيد المتابعة بأن
لا يتابع في عبادته سوى رسول الله .
وإذا تأملت القرآن وجدت هكذا : يأتي بما يدل على التوحيد ، ثم بما يدل على الرسالة ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :
( أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) ثم قال تعالى :
( أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ) وهذا مطرد في القرآن . ص80 ـ 81 .
22 ـ الريب يفسره كثير من الناس بالشك ، ولا شك
أنه قريب من معنى الشك ، لكنه يختلف عنه بأن ( الريب ) يُشعر بقلق مع الشك ،
وأن الإنسان في قلق عظيم مما وقع فيه الشك ، وذلك لأن ما جاء به الرسول حق
والشاك فيه لابد أن يعتريه قلق من أجل أنه شك في أمر لا بد من التصديق به
بخلاف الشك في الأمور الهينة ، فلا يقال : ( ريب ) وإنما يقال في الأمور
العظيمة التي إذا شك فيها الإنسان وجد في داخل نفسه قلقاً ، واضطراباً .
ص81 .
23
ـ هل النار باقية ، أو تفنى ؟
ذكر بعض العلماء إجماع السلف على أنها تبقى ، ولا تفنى وذكر بعضهم خلافاً
عن بعض السلف أنها تفنى ، والصواب أنها تبقى أبد الآبدين ، والدليل على هذا
من كتاب الله في ثلاث آيات من القرآن : في سورة النساء ، وسورة الأحزاب
وسورة الجن ، فأما الآية التي في النساء فهي قوله تعالى :
( إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا * إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا ) ، والتي في سورة الأحزاب قوله تعالى :
( إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا * خالدين فيها أبدا ) ، والتي في سورة الجن قوله تعالى :
( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا ) ، وليس بعد كلام الله كلام ، حتى أني أذكر تعليقاً لشيخنا عبدالرحمن بن سعدي على
( كتاب شفاء العليل) لابن القيم ، ذكر أن هذا من باب : ( لكل جواد كبوة ، ولكل صارم نبوة ) وهو
صحيح ، كيف أن المؤلف يستدل بهذه الأدلة على القول بفناء النار ، مع أن
الأمر فيها واضح ؟ !
غريب على ابن القيم أن يسوق الأدلة بهذه القوة للقول بأن النار تفنى !
وعلى كل حال ، كما قال شيخنا في هذه المسألة : ( لكل جواد كبوة ، ولكل صارم
نبوة ) والصواب الذي لا شك فيه ـ وهو عندي مقطوع به ـ أن النار باقية أبد
الآبدين لأنه إذا كان يخلد فيها تخليداً أبدياً لزم أن تكون هي مؤبدة لأن
ساكن الدار إذا كان سكونه أبدياً لا بد أن تكون الدار أيضاً أبدية .
و أما قوله تعالى في أصحاب النار : (
خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ماشاء ربك ) فهي كقوله تعالى في أصحاب الجنة :
( خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) لكن لما كان أهل الجنة نعيمهم ، وثوابهم فضلاً ومنة ، بين أن هذا الفضل غير منقطع ، فقال تعالى :
( عطاء غير مجذوذ ) ولما كان عذاب أهل النار من باب العدل ، والسلطان المطلق للرب قال تعالى في آخر الآية :
( إن ربك فعال لما يريد ) وليس المعنى :
( إن ربك فعال لما يريد ) أنه سوف يخرجه من النار ، أو سوف يُفني النار . ص86 ـ 87 .
24 ـ إذا قال قائل : ما وجه الإعجاز في القرآن ؟ وكيف أعجز البشر ؟
الجواب : أنه معجز بجميع وجوه الإعجاز لأنه كلام الله ، وفيه من وجوه الإعجاز ما لا يدرك فمن ذلك :
أولاً : قوة الأسلوب وجماله ، والبلاغة
والفصاحة وعدم الملل في قراءته ، فالإنسان يقرأ القرآن صباحاً ، ومساءً ـ
وربما يختمه في اليومين ، والثلاثة ـ ولا يمله إطلاقاً ، لكن لو كرر متناً
من المتون كما يكرر القرآن مل .
ثانياً : أنه معجز بحيث أن الإنسان كلما قرأه بتدبر ظهر له بالقراءة الثانية ما لم يظهر له بالقراءة الأولى .
ثالثاً : صدق أخباره بحيث يشهد له الواقع وكمال أحكامه التي تتضمن مصالح الدنيا ، والآخرة لقوله تعالى :
( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ) .
رابعاً : تأثيره على القلوب ، والمناهج ، وآثاره حيث ملك به السلف الصالح مشارق الأرض ، ومغاربها . ص88 .
25 ـ حكى الله عن الأنبياء والرسل ، ومن عاندهم
أقوالاً ، وهذه الحكاية تحكي قول من حُكيت عنه فهل يكون قول هؤلاء معجزاً ـ
يعني مثلاً : فرعون قال لموسى :
( لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين ) : هذا يحيكه الله عزوجل عن فرعون فيكون القول قول فرعون ، فكيف كان قول فرعون معجزاً والإعجاز إنما هو قول الله عزوجل ؟
فالجواب : أن الله تعالى لم يحك كلامهم بلفظه بل معناه ، فصار المقروء في القرآن كلام الله وهو معجز .ص 89 .
26 ـ البشارة هي الإخبار بما يسر ، وسميت بذلك
لتغير بشرة المخاطب بالسرور ، لأن الإنسان إذا اُخبر بما يسره استنار وجهه ،
وطابت نفسه ، وانشرح صدره ، وقد تستعمل ( البشارة ) في الإخبار بما يسوء ،
كقوله تعالى :
( فبشرهم بعذاب أليم ) : إما تهكماً بهم ، وإما لأنهم يحصل لهم من الإخبار بهذا ما تتغير به بشرتهم ، وتسود به وجوههم . 89 ـ 90 .
بقية الفوائد تأتي تباعاً بإذن الله .